الفتاة الجائعة
تسمرت أمام المرآة تقلب ما حملته طيات وجهها من خفايا الدهر مرددة قول الشاعر:
قد شاب رأسي و رأس الدهر لم يشب ان الحريص على الدنيا لفي تعب
ثم قالت كالساخرة من هذا القول والله ما قدرت كبح نفسي على جمع زينة الدنيا .فجأة شلت يداها عن الحراك و توقفت لوهلة عن تسريح جدائل شعرها الذهبي ,ثم قربت وجهها من المرآة ,فتأملت تقاسيم وجهها الشاحب ممررة أناملها بين ثنايا التجاعيد التي انتشرت في بعض جوانب وجهها ,تجاعيد كريهة غطت نضارة وجهها و محت البشاشة من فوقه و سلمته شهادة التقاعد.
حولت بصرها عن هذا الكابوس المزعج و حاولت تمزيق آثار هذه الصورة من بالها.
و لكن هيهات هذا يوم لا يمحى من مسيرة حياتنا و يستحيل انتزاعه من قاموس الحياة ,فازعة لا بد من حدوثها فلا بد لنا أن نعد الرماح و الأقواس لهذا اليوم. حاولت صرف بصرفها عن هذه الخريطة لكن عيناها وقعتا على المشط لتريا مصيبة أعظم ,حشيت ثنايا مشطها بجدائل شعرها الاصطناعي ممزوجة بشعرات بيضاء نقية ,راعها المشهد الثاني فألقت بمشطها أرضا و أدارت ظهرها مودعة هذا الكابوس ثم غادرت الغرفة مسرعة و الغضب يكاد يذهب روحها,توقفت للحظات ملتقطة أنفاسها المختنقة و تقول منشدة:
ـواحد اثنان..شهيق...زفير .....يوم لم يكن في الحسبان
فجأة, مررت بصرها في أرجاء المجلس الذي كانت واقفة فيه ,عيناها اللتان تملكهما الغضب و القهر امتلأتا أملا الآن بعد أن لمحتا فخامة غرفة تعبت حنين للحصول عليها,أثاث كأثاث الملوك,ألواح من أثمن الألواح زينت حائط المجلس,رائحة الزهور العطرة غطة أجواء المكان .
لا تزال حنين في صمتها و تأملها الى أن أحست بشيء ما يلامس كتفها الناعم ,أفاقت من سباتها كالمفزوعة,لما استدارت لتستطلع صاحب هذه الأنامل الخشنة التي كادت تجرح سطح كتفها الناعم فوجئة برؤية خادمتها التي تقول:
_آنسة حنين,الفطور جاهز و السيد حازم اتصل أثناء استحمامك ليعلمك بأنه بانتظارك في المحطة و أنه سيعيد الاتصال بك بعد لحظات
أبعدت حنين يد الخادمة بقوة و صرخت في وجهها قائلة :
_لا تنسي نفسك أنت مجرد خادمة اياك ثم اياك لمسي مجددا مفهوم
رن الهاتف
_ ابتعدي من طريقي,ردت على الهاتف,صباح الخير....نعم أعلمتني الخادمة...حاضر....ساعتان وأكون بالمحطة,ابتسمت بلطف ثم أضافت,تدرك جيدا أن مواعيدي دائما محددة بالثانية و محترمة...الى اللقاء
أغلقت السماعة بلطف ثم تناولت افطارها و بعد تغيير ثيابها خرجت من المنزل ,كعادتها لم تستقل سيارتها مع أنها من أفخم السيارة و لا حتى سيارة أجرة.فحنين امرأة رياضية اعتادت السير لأميال طويلة على ساقيها .تربت بين أحضان الطبيعة الغناء ,تحب الرياضة ,هوايتها المشي ,في بادئ الأمر كانت تمارس هذه الهواية كمتعة لكن لم اشتد عودها و تحلت كسوة البلوغ صارت هوايتها تمارس للحفاظ على لياقة جسدها و رشاقته .أما الآن حين أصبحت امرأة ناضجة فأكثر ما شدها لمواصلة هذه الهواية شدة ولعها رؤية الناس و لهفتهم حين رؤيتها فهذا يصافحا و هذه تهديها ورودا و تلك تقبلها و هذا يطلب التقاط صورة معها وهي كالأميرة تسير بين الحشود ملوحة لهذا الجمهور العريض موزعة ابتسامات لطيفة مصطنعة.
توقفت أمام البحيرة للحظات تتأمل طائر النورس وهو ينقض على السمكة و يحكم حبسها بين ثنايا منقاره الحاد ثم يلقيها برشاقة الى داخل أمعائه الدائفة لتستقر هناك .أعجبها هذا المشهد الطريف الذي انتهى بموت كائن ضعيف لكنها ترى أن هذا النورس يبقى ضعيفا أمام رصاصة الصياد وهي عليها أن تكون مكان هذا الصياد ان أرادت أن تبقى قوية . بجانب البحيرة تموقعت شجرة ضخمة رهيبة لهذه الشجرة تاريخ يرتبط بقصة شهرة حنين,لهذه الشجرة البنفسجية الأزهار الفواحة الرائحة فضل كبير في رسم طريق شهرة حنين.
منذ عشرين سنة وقفت حنين تحت هذه الشجرة متوشحة فستانا جميلا لكنه ليس بفخامة هذا الفستان الذي ترتديه اليوم,شعرها البني اللامع كان مسدلا على متفيها ,ساقاها يصطكان كاصطكاك الأسنان الباردة ,كانت تحت هذه الشجرة رفقة صديقها الذي كاد يكون زوجها حاتم ,كان حاتم المصور وهي المذيعة,هنا انطلقت أول تجربة تصوير لحنين ,هنا قدمت حنين أول تجربة أداء لها و سمت برنامجها "الحقيقة".حنين الفتاة الطموحة الحالمة كان أملها فضح المعاملات الشائكة و الخفية التي تسببت بحرمان بعض الناس من التمتع ببعض ثروات البلاد,أملت أن تفضح الفساد المنتشر في البلاد و تعيد حقوق المظلومين ,كانت فتاة بسيطة لكن أحلامها ذات أهداف نبيلة سعت لنشر الخير و السعادة و العدالة بين أرجاء البلاد سعت الى ادخال البهجة و الفرحة الى قلوب البسطاء .هكذا كانت حنين قبل عشرين سنة دست الشريط داخل ظرف صغير أحكمت اغلاقه تاركة بين ثناياه عنوانها و رقم هاتفها .منذ ذلك اليوم وهي تنتظر على أحر من الجمر رد القناة,و في كل مرة يرن فيها جرس الهاتف يتوف قلبها عن النبض,الى أن جاء الفرج و جرى القلم بما تشتهي النفوس و عمت الزغاريد أرجاء المنزل و اغرورقت العيون بالدموع .ذهل كل من بالمحطة بهذا الأداء الباهر ,كيف لا وقد تنبأ الجميع بالنجاح لهذه المذيعة الصغيرة,منذ طفولتها وهي متعلقة بالتلفاز,فاثر زيارتها لمنزل عمها بالعاصمة ولعت أشد الولع بهذا الصندوق العجيب و طلبت من والدها صندوقا مماثلا له,و بحكم أنها الطفلة الوحيدة في ذلك المنزل وافق والدها على اشتراء هدية ثمينة كهذه لابنته الغالية.فولعت منذ طفولتها بالتنشيط فكانت ترتمي بين العاملات في الحقل وتتظاهر بتقديم برنامج تلفزيوني لهم فكانت نبض الحياة و باعثة السرور و الضحكة لهن وذلك لما تحمله من روح فكاهية كبيرة.
واصلت حنين الدراسة و القيام ببعض الأنشطة الثقافية في بعض النوادي الثقافية مما ساعدها على تنمية موهبتها و بعد أن تحصلت علىى شهادتها بدأت طريقها في البحث عن طريق الشهرة,كانت فتاة جائعة الى الشهرة ,لم يضن الحب و لا المال و لا الحنان جوعها كانت تتلهف الى ملامسة المصدح الذي يتلهف شوقا الى ابتلاع نفسها الجائع.
في مسيرة بحثها عثرت ذات يوم على اعلانا في جريدة عن انطلاق مسابقة من قبل قناة مشهورة "يسرنا تنظيم مسابقة كبرى نبحث من خلالها انتقاء أفضل برنامج لأفضل منشط و كل ما هو مطلوب هو انتقاء فكرة برنامج و ان أعجبتنا فكرة البرنامج سيتم مواصلة عرضها على قناتنا أيضا هذا الى جانب جائزة نقدية ستمنح للفائز تحفيزا له للمضي قدما"
انطلقت رحلة حنين بعد أن عانقت النصر .في بادئ الأمر واصلت نقل برنامجها الذي لقي اعجابا من الجمهور و ترحيبا من مدير المحطة ,فسعت الى ارجاع حقوق الى المظلومين,نالت حنين شهرة عريضة و لقيت محبة من الجماهير .بعد مرور بعض سنوات أصبح هذطا البرنامج يمس بعض العملاء الذين لهم دور كبير في تنمية القناة العاملة بها فاضطر مدير القناة الى وقف البرنامج ونظرا الى شهرة المذيعة قرر الحفاظ عليها لتذيع برنامجا لا يحمل أهدافا نبيلة كالتي تحملها الآن لكنها لا تزال جائعة الى الشهرة فقررت التخلي عن بعض أهدافها ,برنامجها شبابي لكن بفضل براعتها جذبت مشاهدين من جميع الأعمار و برنامجها لا يزال يحظى الى حد اليوم بأعلى نسبة مشاهدة في الوطن العربي.
أدارت حنين ظهرها و مضت قدما مكملة رحلتها وسط تحيات جمهورها العريض الى أن وصلت الى عيادة الدكتور"سامي" الذي رغب يوما خطبتها لكنها تمنعت و ذلك لشدة تكبرها لكن طريقة رفضها كانت لبقة لم تغضبه وأكبر دليل على ذلك أنها لا ترضى العلاج الا في عيادته.
_السلام عليكم
_أهلا سيدة حنين حلقة البارحة كانمت مذهلة أحرجت الممثل كعادتك بأسئاتك المحرجة الى أن صرح بخفايا لم نكن نعلمها أنا حقا معجبة بك هل لي بصورة معك من.....لم تتوقف المساعدة عن الكلام كانت تتحدث و تتحدث و حنين تكاد تنفجر غيظا تمنت لو أنها تستطيع فصل رأسها عن جسدها ,قاطعتها بصوت لا يخلو من حدة
_عفوا أريد الدخول
_آه...عفوا تفضلي لا يوجد أحد و الطبيب...
_شكرا تجاهلتها ثم دخلت
_أهلا كيف حالك؟
_مرحبا,لست بخير
_ما بال نجمتنا؟
_أكاد أنفجر
_لا زلنا بحاجة اليك
_هذا لطف منك,و لكن لا أدري أشعر بتوعك و دوار شديدين هاته الأسابيع ,دوار بين الفينة و الأخرى و ساقايا تؤلمانني باستمرار و الصداع يكاد يذهب عقلي هذا الى جانب ألم شديد يكاد يذهب بعيناي
بدا القلق يخيم على وجه الطبيب ثم طلب منها التمدد ليطمئن عليها.و بعد أن كشف عليها قال:
_حذرتك السنة الفارطة من العمل المفرط و أوصيتك الابتعاد عن البرامج المباشرة لأن هذا يضاعف توترك و طلبت تقليص سلعلت سفرك من ثلاث الى سفرة واحدة في الأسبوع انك تقضين على نفسك بهذه الطريقة و طلبت منك أن تطلبي من مدير القناة التخفيض من الاضاءة لم تتطبق شيئا مما قلته لك؟ثم نصحتك من تضعيف ساعات نومك مابالك حنين أحياتك لعبة؟
_التزاماتي تفرض علي ذلك؟
_حان الوقت لكي تسلمي المشعل لآخر يستحقها مثلما استحقيتها أنت
استشاطت حنين غيظا فصاحت:
_ماذا ؟اسمع أنا لأزال بحاجة الى عملي و أنا أرفض بأن أكون نورسا أو سمكة أنما صياد أفهمت ؟ و الآن أعطني الدواء
_مع أنني لم أفهم و لا حرفا مما قلتيه سأعطيك الدواء و لكنه لن يفيدك ان لم تتبعي نصائحي أفهمت؟
_أنت لا تدرك كم عانيت لأصل الى هذه المرتبة,حملت ورقة الدواء و انطلقت
خرجت بعد أن ألقت النقود و لم تنطق حرفا واحدا .كادت عيناها تنفجر دموعا الا أنها تمالكت نفسها و غطتهما بنظراتها السوداءو قالت مخاطبة نفسها"لا تهدأ نفسي و لن تشبع روحي قبل أن أبلغ العالمية"
كاد الغضب يذهب بصرها فقررت الجلوس في الحديقة العامة التي كانت تبعد بعض المترات"يالهذا اليوم التعس"قالت مخاطبة نفسها.ألقت بجسدها المنهك فوق الكرسي متلفظة أنفاسها المختنقة.بعد لحظات قصيرة أحست بأنامل ناعمة تلامس يدها فالتفتت مفزوعة فاذا بها فتاة صغيرة شقراء زرقاء العينان و بصوت ملؤه التفاؤل قالت لها:
_عندا أكبر أريد أن أصبح مثلك
انتابها شعور غريب لكنه لا يخلو بعض الارتياحنظرت اليها بعد أن ارتسمت على وجهها ابتسامتها الشهيرة و قالت لها بغرور;
_ما هو الشيء المحدد الذين تحلمين في الحصول عليه جمالي أم شهرتي؟
_ كلاهما
_صعب و لكن ليس مستحيلا
فجأة ,انبثق صوت من وراء حنين ينادي;
_حنين
التفتت حنين فاذا برجل بهي الطلعة شديد البأس ينادي الفتاة الصغيرة فارتمت الفتاة الصغيرة بين احضان والدها الحنون,تقدمت حنين بضع خطوات متأملة ملامح الأب و كأنها تبحث عن شيء مكنون
_حاتم؟
_نعم كيف حالك؟
_بخير و الحمد الله
انها لصدفة غريبة حقا بأن تلتقي بخطيبها السابق بعد مرور عشر سنوات منذ فراقهما و المفاجأة كانت أعظم حين تعرفت على ابنته في نفس اليوم. لقد مضت عشرون سنة على أول التقاء لهما في مكتبة الجامعة أين تشاطرا أحلامهما البسيطة ,كان حلم حنين أن تكون أشهر مذيعة في البلاد و حاتم كان أمله أن يكون أكبر مخرج ,حلما ببناء بيت دافئ و يكونا أسرة دافئة سعيدة تفتخر بوالديهما.لم يحمل حاتم في صميم قلبه ذاك القدر الهائل من الأحلام كان شابا عاقلا متريثا حبه لحنين فاق كل شئ , أما حنين فهي كالطائر الجارح لا يرى شيئا عغير غنيمته التي تنتظر فمه الجائع رغم أنه حاول مرارا و تكرارا التخفيض من حدة طموحاتها اللامحدودة الا أنه اكتشف أن حبها للشهرة فاق حبها اياه.و مع أول نجاح لها نست وعودها اياه فقرر الانسحاب من حلبة المعركة حفاظا على كرامته التي سلبت مرارا.
لا يزال حاتم يحافظ على وسامته بالرغم من أن التجاعيد غطت بعض الجوانب من وجهه حولت بصرها الى ابنته ثم قالت له;
_ابنتك جميلة,حفظها الله من كل شر و مكروه
_شكرا,انها تحلم بأن تصبح مثلك لكنني نصحتها بأن لا تفعل
طأطأت رأسها الى الأرض ثم نظرت اليه بعد أن نزعت نظارتها و قالت;
_أتحرمها من تحقيق طموحها؟
_أنا لا أمنعها لكنني أحذرها,أحذرها من شبح الشهرة الذي لا يشبع,أحذرها خسارة مبادئها التي لقنتها اياها ,أخشى على ابنتي من فقدان أسمى المشاعر و أرقاها ,أخشى عليها ألا تقول كلمة أحب لمن تحب أخشى عليها أن تفقد هذا الاحساس الذي ربيتها بأن تحياه كل لحظة بأن تتنفس كلمات الحب في شهيقها و زفيرها ,الحب الذي عشت فترة من حياتي محروما منه,و للكن الحمد الله الآن تشبعت و ارتويت منه
أحست حنين بانقباض شديد يكاد يذهب دقات قلبها و أرادت لو أنها ارتمت بين أحضان عشيقها السابق و تتمرغ بين ساقيه و تطلب العفو و المغفرة منه لكنها تمالكت نفسها و حولت بصرها فلمحت شابا يلوح اليها و يصرخ;
_ كنت مذهلة البارحة يا سيدة حنين حلقة رائعة ننتظرك الليلة بفارغ الصبر
فصاحت حنين الصغيرة;
_نعم لقد أحرجت الضيف كعادتك أحسنت
أحست حنين بقوة تسري في كامل جسدها دفعت النشاط و القوة الى روحها التي كادت تتبخر فنظرت الى حاتم بقوة وقالت;
_ لم لا أترضى لنفسك أن تكون سجانا يحبس أحلامها البريئة التي رافقت طفولتها لا تكن قاسيا و ارأف بقلب حالم بسيط طموح, ماذا لو ضحت بهذا الحب الذي يمكن تعويضه ؟الحلم يصعب تحقيقه لكننا بين الفينة و الأخرى يمكننا تجديد هذا الحب انه بسيط كعدد كلماته الطموح هو م يجب الامساك و التشبث به أفهمت؟لا شيء يعوض فرصة تحقيق حلمنافلم لم نضحي لأجل شيء تافه يسمى الحب؟
ابتسم حازم و قال لها:
_ عندما تستيقظين يوما ما فترين اتجاعيد احتلت أرجاء وجهك و المرض ينهال على جسدك الضئيل و لا يترك لك سبيلا للتنفس,حين تجدين نفسك في غرفة كبيرة موحشة مظلمة باردة لا يجلس بجوارك أحد يحبك ستدركين معنى هاته الكلمة الصغيرة التي رغم قصر كلماتها الا أنها تحمل معاني كبيرة يكل اللسان تعدادها,هذا الحب الذي يكون بين أناس ذوي قلوب رحية يحبون الخير لبعضهم البعض أما اذا كان الحب منحصرا في ذات واحدة فمن الطبعي أن تسخر كل شيء لها وحدها من الطبيعي أن تنمو صفة الخيانة في هانه النفس أليس كذلك يا آنسة حنن؟حتى اسمك كان رمزا للخيانة؟
نظر اليها باشمئزاز ثم احتضن ابنته و استأذن مغادرا.للمرة الثانية تحس حنين بذل و احتقار شديدين ,تسمرت في مكانها متصلبة الأطراف من فرط الصدمة لا تدري ما ستفعل,أتركض؟أتبكي؟أتصرخ؟أتمشي؟ و بحركتها الخفيفة أخرجت نظارتها لتغطي بها قمة ضعفها ثم أكملت مسيرة النفاق التي قادتها روحها الجشعة.
توقفت أمام باب المنزل فدقت الجرس ,فتحت عجوز يشع نور الطيبة من وجهها الباب و ما أن رأت حنين حتى أشرق وجهها بشرا ثم فتحت ذراعيها عارضة حضنها الدافئ لها الا أن حنن استقبلت عرضها السخي بالرفض قبلتها قبلة باردة ,نظرت اليها والدتها بحزن وقالت;
_ بنتي ألا يوجد مكان لكلمة التواضع داخل قلبك ؟
_ أمي هذه حياتي و هذه اختياراتي
_ ابنتتي خاف ربك
_ أمي ما بالك اليوم أنسيت أنني سبب في هذا النعيم التي أنت فيه فما تريدين أكثر من هذا؟
_ المال ليس سر النجاح في هذه الحياة و ليس المال مدخل البهجة و السرور و الفرحة في قلوب البشر ألم تسمعي بشيء شيء اسمه الحب و الحنان
لم تتمالك نفسها فصاحت من شدة الغضب:
_حنين,اسمي حنين,اسمعي طلبت منك آلاف المرات ألا تعيد على مسمعي هذا الاسم اللعين ,لست حليمة ,ان لقبتني مجددا بهذا الاسم فسأمتنع عن زيارتك و سأرسل خادمتي لتهتم بك.
طأطأت الأم رأسها و قالت بصوت تخنقه الدموع مخاطبة نفسا حزينة"حتى اسمك تكبرت عليه"
"حليمة" اسم حنين الحقيقي و هي تكره حتى تذكره.فمنذ أن أشرقت شمس السعد و البشر في وجهها تنكرت لاسمها متداعية أنه اسم كريه لا يتناسب مع شهرتها. فانتقت اسم "حنين",اسم حنين له قصة طويلة و جميلة,حاتم ذلك الشاب الوسيم كان له أختا توأما تدعى حنين الا أنها توفيت منذ سن الولادة و رغم ذلك فحاتم أحب أخته التي لم تلمحها عيناه,أما حنين فهي بدورها كانت لها صديقة بيتها لصيق ببيتها و كانتا من أعز الأحباب الا أن حنين صديقة حليمة توفيت بمرض مزمن و مرور الوقت و حين التقى الحبيبان اتفقا أن يكون اسم اول ابنة لهما تدعى حنين.و يوم توضع النفس لأول اختبار لها خانت حليمة العهد و رأت أنها الأجدر في حمل هذا الاسم.أما حاتم فوفى بعهده و لقب ابنته حنين و بذلك صارت ابنته رمزا للحب و الخيانة.
محي اسم حليمة من القاموس التاريخي و لا يتذكر هذا الاسم سوى حاتم و أمها التي تغيضها بين الفينة و الأخرى بتذكيرها صفحات الماضي,لقد سئمت أمها هذا التكبر و التغطرس اللذان تجذرا في قلبها,خاصة بعد أن مات والدها وهو يتمنى رؤية وجهها لكن المسكين لم يظفر برؤية ابنته بسبب انشغالها عنه .فترة مرضه ارتبطت ببداية شهرتها,التهمت أضواء الشهرة بنهم و نسيت أن صوت والدها يناجيها,نسيت عقاب الالاه لعاصي الوالدين.
شربت قهوتها ثم قبلت أمها تلك القبلة الباردة ثم خرجت من البيت قاصدة الأستوديو هناك استقبلها الجنيع بحفاوة حارة,دخلت غرفة الاجتماع لتوقيع عقد اعلاني لشركة ما.اثناء قراءتها للاعلان تذكرت شبابها حين كانت تصف مقدمي الاعلان بمشعوذين لأنهم كانوا يروجون لبضاعة لا يستعملونها لادراكهم سلبياتها,وهي اليوم تروج لحلوى تتسبب بزيادة عشر سعيرات حرارية و بما انها محافظة على رشاقتها فيستحيل أن تتناول هذه الحلوى,وهذه المرة الألف التي تبيع فيها حنين مبادءها,لكن تذكرت أن هذا الاعلان عالمي و العالمية شارفت ملامسة يدها و جماهيرها ستصبح أخيرا عالمية.
أمسكها المدير من يدها و قال:
_مبارك عليك العقد و الآن لنسرع الى الأستوديو فموعد البرنامج قد حان
انطلق البرنامج الأضواء تذهب الأبصار و حنين سلبت العقول بتلك الابتسامة الشهيرة ,بعد مرور لحظات أحست بدوار شديد و أغشي عليها و عندما أفاقت لمحت و جه أمها بعينيها الدافئتين و الدموع تنهمر على خديها كالمطر,الورود طوقت سريرها و المدير جالس على يمينها,فنظر اليها و قال:
_الحمد الله على سلامتك
_ شكرا ماذا حدث لم أنا هنا؟
_ أصبت بدوار فحملناك الى المارستان
_ان شاء الله بعد أن أحس ببعض الراحة سأعود الى متابعة عملي
_ وهذا سبب وجودي اليزم أحضرت لك بقيت أتعابك لقد قررنا الاستغناء عن خدماتك فليست هذه المرة الأولى التي يغشى عليك يا حنين
_و لكن....
_ عفوا سمعة القناة ليست لعبة و لولا السيدة نعمة التي أنقذت الموقف لما تمكنا من اتمام الحلقة ,نلت فرصتك و ليست لك مؤهلات لاتمام عملك الطبيب يقول أن حالك تزداد سوءا و أن عليك ملازمة الفراش,أستأذن
هنا خرجت الأم من قوقعة صمتها و صاحت:
_ أليس بقلبك رحمة ابنتي تموت أبعد النجاح الباهر الذي صنعته لكم تقول هذا
_ عفوا سيدتي ليس في عملنا حالات انسانية
بعد مرور ثلاثة أيام خرجت حنين من المستشفى لتلازم الفراش و تعاني مابقي لها من أيام رفقة والدتها.الصدمة أنزلت عليها داء السكينة و أعجزت لسانها عن النطق ,رؤية مشهد الهزيمة زاد من روعتها و كرهها لهذه الحياة التي انقلبت شقاء,حنين التي قادت عيون المشاهدين بعد سحرها تسرق منها الأضواء و تسلط لفتاة أخرى ,أيبيعها جمهورها؟
دخلت والدتها و في يدها طبق يحتوي الدواء و كوب ماء,تملكتها قشعريرة سرت الى كامل جسدها لرؤية هذا المشهد ,أمها التي عاهدت نفسها على أن تحرص على الاعتناء بها تصبح ممرضتها ,فاضت عيونها دموعا,تأثرت أمها لهذا المشهد المروع فحضنت ابنتها و شاركتها البكاء .
مضت الشهورو المرض ينهش جسدها منقضا على الأخضر و اليابس بنهم الى أن قضى عليه فهربت روحها لتخلف جسدا فارغا جائعا,جسدا حرم الحب و الحنان,ماتت حنين داخل غرفة مظلمة رغم الأنوار المنتشرة,الا أن نور الحب غائب,مكان كريه الرائحة,تغيب فيه رائحة الأبناء,سرير بارد غاب فيه روح المحبة الزوجية الباردة,استحوذت كل شيء لذاتها و حرمت من نور ينير طريقها الى المقبرة وحب يعطر تربة قبرها التي غابت عنه الورود و محبة تدفئ جسدها المتآكل داخل قبر ثالج.وانتهى بها المطاف في حفرة عميقة مظلمة ووداع بسيط لم يحضره سوى حاتم و الطبيب و حازم و بعض الأقارب.